مَا السُورة التى نَزلت جُملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح ؟
وفي هذه اللحظة تبدأ الموجة التالية تعرض موقف المكذبين مع التهديد بعرض مصارع الغابرين: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام:4،5].
الافتراء: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
وتنتهي الموجة بتقرير خسارة المكذبين بلقاء الله، وتفاهة الحياة الدنيا إلى جانب الدار الآخرة المدخرة للذين يتقون. ثم تبدأ موجة خامسة يلتفت فيها السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويسري عنه ما يحزنه من تكذيبهم له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
وهكذا يمضي سياق السورة موجة في إثر موجة، يأخذ بالسامع ليوقفه أمام المشهد، وأمام المواقف يتدبرها بحركة تكاد الألفاظ تجسمها.
ولقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه هي أيسر السبل إلى قلوب العرب الذين كانوا يعرفون من لغتهم أن معنى “لا إله إلا الله” هو نزع السلطان الذي يزاوله الكهان والحكام، ورده كله إلى الله، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام.
لا قومية ولا اجتماعية ولا إصلاحية!
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب واستخلاص أرضها المغتصبة من الرومان والفرس، ولو دعا هذه الدعوة لاستجابت له العرب على الأرجح، ولكن الله سبحانه لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه، إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله، وأن يحتمل هو والقلة المختارة كل هذا العناء؛ لأن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله، والناس عبيده وحده، ولأن الجnسية التي يريدها الإسلام للناس هي جnسية العقيدة التي يتساوى فيها سائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة، قلة قليلة تملك المال والتجارة، وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع، كان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية، دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء!
ولو دعا هذه الدعوة لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والرئاسة، بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه “لا إله إلا الله”، لكن الله سبحانه لم يوجهه
هذا التوجيه؛ لأنه يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله لله، ويستقر في قلوب الجميع أنه ينفذ نظاما يرجو عليه خيري الدنيا والآخرة.